التجديد الفقهي
د. مريم بنت سعيد العزرية - باحثة شؤون إسلامية -
إن الدين الإسلامي لا يعارض نظرة الإنسان المتطورة ويتواكب مع متطلبات الحياة المتجددة، وقد واجهت الشريعة الإسلامية على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمن التطور البشري، فما ضاقت بجديد ولا قعدت عن الوفاء بمطلب عتيد، بل انطوت على علاج لكل مشكلة وحل لكل معضلة، وواجهت حوادث متسعة لا حصر لها إذ التقت بعدد من الحضارات وتفاعلت مع مختلف البيئات واستوعبت جميع الجنسيات.
ولذا فإن سنة التجديد أصل من أصول الإسلام وضرورة من ضروريات حفظ الدين الإسلامي، تتمثل دوافعه الذاتية في أهداف الشريعة الإسلامية وخصائصها في سبيل المحافظة على أصالته وصلاحيته وتحقيق أهدافه على مر العصور والأزمان، وإثبات سعته وفاعليته التي تجعله قادرًا على استيعاب جميع مناحي الحياة.
وتشهد لحركة التجديد الفقهي مراحل تطور الفقه الإسلامي إلى عصرنا الحاضر ومقاصد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، ويستحيل أن يتوقف التجديد ما دامت عجلة الحياة تدور وتفرز متغيرات عديدة وتطورات علمية متنوعة تغير نمط حياة الحياة وطرق معاشهم ولغة تخاطبهم وطرق تحصيلهم العلمي ووسيلة اتصالاتهم، تلجئ الناس إلى العلماء والفقهاء في أسئلتهم وفتاويهم المتجددة؛ عملا بقول الله تعالى: (فَساَلُواْ أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ). وليس أدل على هذا المبدأ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». (رواه أبو داود).
إن التجديد الفقهي فريضة دينية وضرورة عصرية، وإن اختلفت أقوال العلماء حول ماهية التجديد، لكن لا يخرج عن مضمون إحياء الدين والعود به إلى مغزاه الأصيل من خلال استصحاب الثوابت وتجديد المتغيرات، وقد عرفه العلماء بأنه إحياء ما اندرس من أحكام الشريعة وبيان ما خفي منها وما ذهب من معالم السنن ومحاربة ما طرأ من بدع وشبهات. فلذا فإن مصطلح التجديد مغاير لحقيقة التغيير؛ لأنه عملية تفاعل حيوية داخل فكر موجود أصلا وفقا لمعطيات الزمن والمكان المتغيرة والمتطورة، حتى يؤدي غايته من استيعاب حاجات المكلفين وفق معطيات عصورهم، بخلاف التغيير الذي يتضمن فكرة تغيير طبيعة القديم أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر.
ولا يراد بالتجديد الفقهي هدم الدين والخضوع الأعمى المطلق لما يستورد من الغير من نظم وقيم وأخلاق ومناهج، وتبريرها تحت غطاء شرعي وشعارات التجديد؛ لأن التجديد الفقهي لا ينطلق من فراغ؛ بل له قواعده ومنهجيته ومرجعيته وثوابته المنطلقة من الوحي والمتصلة بالواقع. وفي المقابل فإن الأحكام الشرعية ليست جامدة، فهي متحركة تتساوق مع مقضيات تغيرها المقبولة شرعًا وفق قواعد تغيير الأحكام المقررة؛ وطبيعة تشريع الأحكام والاجتهاد فيها تدعو إلى التجديد؛ لأن هذه الشريعة الإسلامية إنما أشيدت على تحصيل المصالح للعباد في العاجل والآجل، فلا بد عند الاجتهاد من الغوص في النصوص والأدلة الشرعية؛ لاستجلاء معانيها وتعيين مقصديتها وتحققها في الواقع في ضوء مقتضياته المتطورة والمتجددة، واعتبار المآلات والعواقب المترتبة عليها في سبيل التوصل إلى الحكم الصحيح منها.
وبهذا يتضح أن تفعيل مقاصد الشريعة وقواعد التشريع الكلية هي أساس تجديد الفقه الإسلامي، فهي المحرك المعنوي له ومن خلال استثمارها يمكن بعث الحيوية في الفقه الإسلامي وانتشاله من الجمود وسريان التعصب والعجز، وصيانة الاجتهاد فيه من الانحراف عن الخط الصحيح؛ لأنها ما تزال على مر العصور تزود الاجتهاد برافد عظيم لا غنى لها عنه، بصفتها منهجاً في تفسير النص الشرعي واستنباط الحكم الشرعي منه وتنزيله في الواقع، وتمثل ضابطًا حيويًا تؤول إليه الأحكام الشرعية جميعها فيما يستجد من قضايا معاصرة؛ بل وسلوكا عاما في الفكر والعمل الإسلامي عموما والتجديد الفقهي على وجه الخصوص.
إن من أهم ضوابط التجديد الفقهي استعماله في مجالاته المحددة حسب ما تسمح فيه بتغير أحكامها وقضاياها حسب تغير الأزمنة أو الأمكنة أو الظروف، فإن الأحكام الشرعية الثابتة بدليل قطعي في الأصل لا تتغير بمرور الزمان ولا بتغير المكان أو الأحوال، كالأحكام المتعلقة بالعقيدة أو الإيمان وأصول العبادات والمقدرات وبالمحرمات اليقينية وما يتعلق بفضائل الأعمال وأصول المعاملات وقواعد الأخلاق. وأما الأحكام المتغيرة التي يمكن تجديدها هي الأحكام الظنية الثابتة بالاجتهاد كالقياس أو المصالح المرسلة أو العرف ونحوها من أدلة الاستدلال؛ لأن الأحكام الشرعية لا تتغير بحسب الهوى والتشهي، واستحسان العباد واستقباحهم؛ بل لوجود سبب وحاجة تدعو لمراعاة لمصالح العباد وفق أصول وقواعد .
إن التجديد الفقهي يستلزم الانفتاح على العلوم الأخرى الإنسانية والاجتماعية والعلمية وغيرها والاستعانة بالخبرة العلمية المتخصصة في استنباط الأحكام الشرعية؛ وهذا منشأ الجدة في الطرح والأصالة في الاستدلال، و يتلاءم مع شمولية الشريعة الإسلامية وعمومها؛ حيث يكفل الوفاء بحاجات الناس وفق معطيات عصرهم ومطالبهم في كل عصر وبيئة على ضوء من روح التشريع وغاياته. والإلمام بالعلوم والمعرفة الإنسانية يتيح كذلك التعرف على الشعوب والحضارات الأخرى وتجاربها، حيث إن معظم المستجدات المعاصرة هي دخيلة على المجتمعات المسلمة من حضارات أخرى، كالمستجدات الاقتصادية والطبية والاجتماعية وغيرها، فمن خلالها يمكن التعرف على مآلاتها وما أفرزه تطبيقها في تلك الدول من مصالح ومفاسد، فيكون بذلك خير معين على تقييمها وتصورها تصورًا فيه جلاء ووضوح يقربها من الذهن.
يقوم التجديد الفقهي على ركائز عامة تتمثل في التأطير العقدي والأخلاقي للفكر والعمل في الإسلام، ومراعاة اتجاه الوسطية وخط الاعتدال فيه، وربط الفقه بالواقع ومقتضياته من فهم للسياق الاجتماعي وتغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة واعتبار المآل. وينبثق من على ذلك معالم عامة للتجديد الفقهي وخطواته تتمثل في بناء منظومة الفقه وحدة مترابطة متكاملة من خلال ربط الأحكام ببعضها، وربط الأحكام الجزئية بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، وضرورة إعادة تصنيف المادة الفقهية تصنيفا جديدا يراعى فيه ربط الفقه بالعقيدة والأخلاق، من خلال بث روح العقيدة والأخلاق في الفكر الفقهي وتوجيه كل قضاياه وأحكامه بمغازيه العقدية الكلية العامة وأبعادها الروحية والتربوية.